أعيش حياتي بوتيرٍة صاخبة.
أنا طبيبة نفسية، ولشدة عشقي لمهنتي، فأنا أعتبر زواري-لا أحب أن أسميهم مرضى- هم عائلتي الكبيرة، ويعنيني أن أراهم راضينَ ومرتاحي البال دائمًا.
لا بد أنكَ عزيزي القارئ قد خمنتَ أنني أعيش وحيدة، وأن لا وقت لديَّ لنفسي... لحياتي... لأنوثتي كامرأة تجاوزت الأربعين منذ نيِّفٍ وأربعة.
أسكن الطبقة الأخيرة من بناءٍ تعداده خمسة أدوار، كانت رياضة شاقة أحيانًا بعد تعب النهار، أن أضطر لصعود السلالم بسبب انقطاع الكهرباء... معضلة لبنان الكبرى.
ذات مساءٍ بارد، اقترب مني عبود صاحب الدكان بينما كنتُ أجمع حاجياتي من السيارة، وأشار إلى شاحنة تقف أمام مدخل البناء المقابل، يُنزل منها العمال أثاثًا منزليًا... وقال: سكان جدد، استأجروا المنزل الفارغ.
كنتُ أعرف أن المنزل الفارغ في هذا البناء، هو الشقة المقابلة لي في الدور الخامس. ولأنني عادة أتصرف بحرية لخلو الشقة المقابلة، فقد عمدتُ إلى إسدال الستائر.
ونسيتُ موضوع السكان الجدد...
كوني طبيبة كنتُ من أوائل الفئات المستهدفة لتلقي اللقاح تحصنًا من الكوفيد 19 وكل متحوراته، ولطالما كنتُ أشدّد على زوار العيادة أن يتلقوا اللقاح.
فجأة... ولخللٍ لم أفهمه في وقايتي الشخصية، أحسستُ بعوارض مقلقة... فشُخصت حالتي على أنها إصابة "بمتحور دلتا".
بطبيعة الحال حجرتُ نفسي في المنزل، ومن نِعم الله عليَّ أن العوارض كانت متوسطة الشدة على جسدي المنهك، الذي لم أمنحه إجازة منذ سنين.
تركتُ خبرًا لزواري وطمأنتهم عني، وأغلقتُ هاتفي!... لم يسبق لي أن أغلقتُ هاتفي، لكن الطبيب أصرَّ، فأنا بحاجة للراحة، ولا شيء أكثر من الراحة.
خلال يومين من الحجر المنزلي، كنتُ قد استطلعتُ زوايا منزلي التي لم أكن انتبه لوجودها قبلاً. مثلاً الشرفة تحتاج لكثيرٍ من الترتيب والتنظيف!
المنزل بغرفه الثلاث، بحاجة لحملة نظافة شاملة، يبدو أن العاملات اللواتي كنَّ يتولينَّ التنظيف دوريًا، كنَّ مستهترات ومتهاونات بسبب غياب رقابتي عليهنَّ.
بدأتُ أعمال التنظيف، بدءًا من الشرفة.
أول ما لاحظته في الشقة المقابلة لي، جلوس رجلٍ في الشرفة، أمامه لابتوب، كنتُ أراقبه وهو يجلس ساعاتٍ طويلة، طريقة استخدامه لللابتوب ملفتة للنظر!... لم يكن الرجل ينظر إلى الشاشة، ويضع دائمًا سماعاتٍ في أذنيه!... ألا يمل هذا الرجل من سماع الموسيقى!... لا بل ألا يصيبه الصداع من الأصوات!؟
اعتدتُ أن أراقبه خلال الأيام التالية، لفتتني وسامته. كان يبدو كعالِم أو فنان أو... لا أعرف! كنتُ كل يومٍ أجد له وظيفة، وكل وظيفة كنتُ أجدها تليق به.
انتهيتُ من تنظيف المنزل بعد أربعة أيامٍ، فأصبحت مراقبتي لجاري شغلي الشاغل. كنتُ أحاول أن أقرأ كتابًا، فيشتتني التفكير به. ومن غرائب الأمور، أنه لم يعرني اهتمامًا وأنا أجلس مقابله في الشرفة!
بعد ما يقارب الأسبوعين، شفيتُ من الكوفيد/دلتا... لكنني أصبتُ بالحب!
لا تحكموا عليَّ وتعتبرونني مجنونة، هذا الرجل ملك كياني كله، كأنني أحبه منذ سنين، كأنه توأم الروح الغائب منذ ولادتي... وها هو قد عاد.
كان نهاري الأول في العيادة، بعد الشفاء حافلاً بالزيارات. تهتُ في أروقة مشاكل زواري، ونسيتُ تفكيري برجلٍ... لا يهتم لوجودي!
عدتُ مساءًا منهكة، وأنا أحلم بحمامٍ ساخن، ونومٍ طويل. وإذ بشابٍ يقترب مني بينما أقفل باب السيارة.
عرَّفني بنفسه، بأنه ساكن الشقة في الطابق الخامس المقابل لشقتي!
يا إلهي!... لِمَ لم أره من قبل؟... وما علاقته "بفارس أحلامي؟"
يسكن في المنزل وحده مع والده الكفيف! أربكتني المفاجأة... إذن "رجل أحلامي" لا يراني!
أخبرني الشاب أن والده الأرمل أصيب بحادثة في عمله في مصنعٍ للمواد الكيميائية، مما أفقده بصره. وانه بحاجة لاستشارتي في شأن والده، فالرجل لم يتقبل بعد فكرة فقدانه بصره.
وعرفتُ أن فارسي الجميل يقضي نهاره يستمع لكتبٍ صوتية جهزها له ابنه على اللابتوب، فهو قارئ من الطراز الرفيع، والكتبُ غرامه وعشقه.
كيف عرف أنني طبيبة نفسية؟... انه عبود الفضولي.
"كم أنا ممتنة لفضولك يا عبود".
زرتُ الرجلين، كجارةٍ توّد أن تتعرف إلى جيرانها...
وثق بي وأخبرني عن مأساته، فأصررتُ على أنها مشكلة عابرة، وأن معاناته زوبعة في فنجان، ووعدته أن نتجاوز الأزمة معًا.
هل سأتزوجه؟... طبعاً سأتزوجه.
وإن لم يبادر لطلب يدي، فسأصارحه بحبي، وأطلبه للزواج.
Images rights are reserved to their
owners