معلقة بين الأرض والسماء، تتناهبها الأفكار والهواجس في شقة

لم تفقه ما معنى ذلك، لكن والدتها وعدتها أن تشرح لها حين تصبح جاهزة، وأفهمتها أنّ كل ما عليها أن تفعله إلى ذلكَ الحين، هو أن تتعلم وتتعلم ولا شيء غير أن تتعلم، مع ضرورة أن يحفظ ويعي فكرها الصغير أن كل ما تتعرض له الآن من تسلط والدها ما هو سوى مرحلة عابرة يجب أن تتخطاها بنجاح.
أجالت نظرها في أرجاء الشقة الواسعة... الباردة، التي يسكنها الصقيع ويعشش فيها البرد.
"إذن هذا هو نجاحي يا أمي!". أين النجاح في عزلة تامة داخل شقة فاخرة البرودة، في الطابق الثاني عشر من بناءٍ في أحد شوارع لندن الراقية؟.
وقفت في النافذة تنظر إلى لندن... لندن الفخامة... لندن الضباب... لندن البرد.
ما الذي يربطها برفاهية الصقيع هذه؟... أيعقل أن هذا المنزل هو مسرح لندني راقٍ، وهي هنا تؤدي دور أسيرة في قلعة محصنة؟ أم أنها أميرة ضل فرسها فأسرها قطَّاع الطرق وأهدوها لأميرهم المتخفي في ثياب فارسٍ نبيل؟
في الخارج تتساقط الثلوج، وفي روحها تمطر الذكريات.
تابعت دراستها بيقين من ستتغير حياته بعد نيل هذه الشهادة، إنَّ سعادتها كلها ووجودها وكيانها المستقل مرهون بنيلها هذه الشهادة.
نالت شهادتها الجامعية في الحقوق يوم توفيت والدتها جراء الضرب المبرح الذي تعرضت له على يد زوجها المتسلط!... لماذا؟ ببساطة لأنها واجهته وأصرَّت على مخالفة أوامره حين قررت أنّ ابنتها يجب أن تنال شهادة الدكتوراه.
وجدت عائلة الأب محاميًا حرَّف القضية عن مسارها، لتصبح قضية زوج يدافع عن شرفه أمام زوجة مستهترة تريد أن تأخذ ابنتها إلى حياة المجون التي تحياها.
وهكذا أقفِلتْ القضية والنعجة أصبحت هي المذنب في مهزلة بطلها رجلان. ولم تنفع شهادة أشقاء المغدورة بأن شقيقتهم تعرضت للضرب المبرح فقط لأنها دافعت عن ابنتها البالغة الرشيد، حاملة الشهادة الجامعية.
لكن... لا أحد يصدق شقيقًا مطعونًا في شرفه وقلبه.
ما زالت كلمات والدتها الأخيرة وهي تلفظ أنفاسها تتردد في رأسها "لا تعيشي مع هذا الوحش... غادري المنزل".
وجد لها خالها مكتب محاماة تتدرب فيه، وكان المكتب لابن مديره المباشر.
أعجب المحامي بجهودها واجتهادها، فمنحها كل الإمكانات كي تثبت جدارتها. وهذا ما فعلته.
لكن!... حصلت عملية سطو على بنك راح ضحيتها الحارس الليلي. والجناة لم يلقَ عليهم القبض إلا بعد أكثر من سنة على الحادثة، والمخطط للحادث كان... والدها!.
أفاد أثناء التحقيق بأن ابنته المحامية هي مَن أعطاه النصيحة بالفرار والتواري طوال هذه المدة. لكن القبض عليه جاء نتيجة وشاية من أحد أفراد العصابة الذي طمع بالمزيد من المال.
ولم تكن تبعات الخبر عادية بالنسبة لها أو منصفة. فقد أوقفتها نقابة المحامين عن العمل وقدمتها للمحاكمة. لم يثبت عليها الجرم، لكن وصمة العار بقيت ملتصقة باسمها!
وهكذا أصبحت عاطلة عن العمل في منزل خالها الذي سرعان ما ضاقت زوجته بالوضع وأصبحت تتذمر من كل شيء.
دخلت عليها زوجة خالها يومًا ووجهها يحمل البشرى السارة كما قالت. أخبرتها أن جيرانهم القادمون من دولة عربية، يبحثون لقريبهم المغترب عن عروس تكفيه شرَّ الوحدة والغربة.
ووضعتها المرأة أمام خيارين، القبول بعريس لم تره يومًا... أو البحث عن مكانٍ آخر تعيش فيه. فالمنزل بدأ يضيق بسكانه!
تزوجته...
من ناحيته كان رجلاً صريحًا وواضحًا، فقد أخبرها بقصته كاملة، كان متزوجًا من امرأة من بلده، أنجبا ولدًا وحيدًا قبل أن يحصل على فرصة للعمل في لندن ككاتب صحفي.
وهناك!... سرق بريق لندن براءة زوجته البسيطة، هربت مع عشيقٍ لها. فطلقها وأصبح وحيدًا مع طفل صغير، حتى أمه نبذته ورفضت تحمل مسؤولياتها تجاهه.
قررت أن تتقبله، أقله هو رجلٌ متعلم وعلى مستوى ثقافي، ويعرف كل شيء عنها وقد أبدى منذ أن تعرَّف إليها تعاطفه معها ضد كل الظلم الذي تعرضت له.

ألقت نظرة على الطفل النائم بوداعة، دون أن يعي ما سببه وجوده لها من حزن... فلعل والده أراد الزواج لأجل أن يجد مرافقة لابنه.
طبعًا لم يكن الخروج وحدها مسموحًا، لأن لندن كبيرة على صبية غريبة قادمة من الشرق.
لكن السبب الغير مُعلن كان غيرة زوج يحمل عقدة من زوجة سابقة شاركه فيها الكثير من الغرباء. تقبلت سجنها في شقة واسعة وباردة مع طفل صغير، وخادمة تصرّ أن تفرض رأيها بكل كبيرة وصغيرة، فهذه لندن يا سيدة... هنا لا أسياد ولا عبيد.
كم حاولت أن تحول معرض الجليد هذا، إلى منزل زوجي. كم تفننت للفت نظر زوجٍ ما زال في ريعان شبابه. لكنه كان يقابل دلالها الأنثوي بالابتسامات الودودة، كتلك التي نلقيها في وجه طفل بريء يحاول أن يسترعي انتباهنا بعيدًا عن شؤوننا الهامة جدًا.
ليلة البارحة، لم يأبه لمحاولاتها في التقرِّب منه أو لمسه، فقد كان مشغول الفكر لدرجة أنه بالكاد بادلها قبلة لا حرارة فيها، وأدار ظهره لينام.
هل كان حقًا نائم؟ أم يتظاهر بذلك كما تفعل هي في معظم الأحيان، حين تمتنع عن الحركة كي لا توقظه، وتتظاهر بالنوم في وقت تتقاذفها فيه الأفكار.
"عدم القدرة على النوم والامتناع عن الحركة: إنه منزل الزوجية"... تلك هي جملة كونديرا الشهيرة.
هل كان حقًا نائم؟ أم يتظاهر بذلك كما تفعل هي في معظم الأحيان، حين تمتنع عن الحركة كي لا توقظه، وتتظاهر بالنوم في وقت تتقاذفها فيه الأفكار.
"عدم القدرة على النوم والامتناع عن الحركة: إنه منزل الزوجية"... تلك هي جملة كونديرا الشهيرة.
صباحًا شعرت بوعكة، فنصحتها قريبته بإجراء فحص للحمل...

قالت والدمع يكاد يفر من عينيها إنها حامل.
ابتسم بود... لا بل بسعادة وقال: إن ذلك أفضل ما يمكن أن يحصل لكِ ولي.
تركته نائمًا والساعة تعلن منتصف الليل، وقفت أمام صورة والدتها التي تحتفظ بها في غرفة مكتبتها الخاصة، وضعت يدها على بطنها وقالت: أمي... إنه انتصاري على سجن الحريم.
Images rights are reserved to their
owners