ولن ننسى


قيل أن الحرب وضعت أوزارها...
كنتُ منهكة كما لو أنني كنت على الجبهة أقاتل!
لا تصدقنَّ أحد يقول إن الأطباء لا يشعرون. نحن فقط نحاول قدر المستطاع أن نكبت مشاعرنا، فالانهيار ترفٌ ممنوع علينا، لأن أثمانه باهظة على الناس والمجتمع.

صمدتُ إلى أن...
منحتُ نفسي ترف الانهيار بعد أن انتهت الأعمال العسكرية... لن أقول انتهت الحرب! فالحروب لا تنتهي. هي فقط تستريح بعيداً عنا، لتستجمع شراستها.
حصلتُ على إجازةٍ أستعيد فيها أنفاسي بعد الأهوال التي عشناها في القطاع الصحي، منذ يوم تفجير أجهزة البيجر، حين قام العدو الشيطاني بارتكاب أكبر عملية اغتيالٍ جماعي!

اخترتُ أن أقضي إجازتي في منطقة الشمال، القموعة/عكار. لما لها من ذكرياتٍ جميلة في نفسي، فهناك قضيتُ شهر العسل منذ عشرة أعوامٍ. وإليها أعود اليوم وحيدة بعد استشهاد زوجي الطبيب أثناء تنقله بين مستشفيات الجنوب.
هناك بين أرزها الشامخ، سمحت لنفسي بالانهيار. بكيتُ كل آلامي، بل بكيتُ آلام البشرية جمعاء منذ أن وجِدت.
أسبوع كامل وأنا أفرغ أحزاني في الطبيعة، كنت أمشي لساعات... أتسلق الصخور... أصرخ تحت أشجار الأرز، أحمّل الهواء بكائي ونشيجي. أندب زوجاً/حبيباً... منذ أن رحل وأحزاني تتناسل بصمت كنمو أشجار الغابة.
أصبحتُ شؤم نبوءات العرافات، وأنين الخائفين. لم يعد في ذاكرتي سوى شمسٌ غاربة، وبـردٌ... ودهور حزن.
لا شيء فيَّ مكتملٌ إلا أحزاني. كما لو أنني منديلٌ في مهب الريح يلّوِح للراحلين. كما لو أنني أوراق مهمَلة، في مواجهة الريح... والهموم فوق رأسي ثقالة ورق.

مرَّ أسبوع وأنا على هذه الحال...
إلى أن اكتشفتُ أنني حامل!
فقررتُ أن أسجل ويلات الحرب في كتابٍ أتركه لابني وللأجيال القادمة، عن شراسة وإجرام عدو صهيوني، لن ننسى إجرامه، ولن نسمح للأجيال القادمة أن تنساه.

وضعتُ مخطط لكتابي، حسب مراحل حياتي في وطن منكوب بشياطينه وقديسيه.
الطفولة: وكيف لنبي أن يعيش في الجحيم!!!!
الوطن: أمل... كصخرة سيزيف. كلما رفعتها عالياً تدحرجت لتدهسني.
الحاضر: زمن الدعارة الفكرية!
الحرب الأخيرة- لعلها كما أتمنى- وهل مَن يستطيع نسيان يوم انفجار أجهزة البيجر؟!
كانت صور الشباب تراود دموعي عن تحجرها، فأنزف دموع حارقة، شبانٍ مضرجون بدماء عيونهم وأطرافهم، يبتسمون في وجوه الطواقم الطبية، ويشدون من ازرنا!
مشهد غرائبي سريالي بامتياز. فمَن الأحق بالمواساة، نحن أم هم!
والأطفال؟... عملية الاغتيال تلك لم توفر كبيراً أو صغيراً، رجل أو امرأة!
أما اغتيال السيد حسن، فتلك مصيبة أخرى!
أفلم تتكالب علينا أمم العالم، بعد اغتياله!
يا ليلة 27 أيلول/سبتمبر 2024 هل علمتِ قبل أن تدخلي التاريخ أنكِ ستبقين ذكرى مشؤومة ما بقينا وبقي الليل والنهار!

وأنا أحضِّر قهوتي داهمت ذاكرتي صورة امرأةٍ حامل، كانت حالتها حرجة جداً، وكيف لا تكون! والعدو صبَّ جامّ حقده على الآمنين في ضاحية بيروت الجنوبية.
باختصار... استطعتُ أن أخرج من رحمها طفلاً حياً، بينما هي تسلِم الروح!.
حملت الطفل وبكيت، بينما الممرضة بجانبي تقرأ آيةً من القرآن... بسم الله الرحمن الرحيم {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}
ما هي إلا سويعات، حتى أغار العدو على مكانٍ قريبٍ من المستشفى!
وجدنا الطفل في الحاضنة مصاباً بشظية.
قرر الوالد أن يضع الرضيع في حضن أمه في القبر.
أخبرني أحد العاملين في المستشفى- وهو قريبٌ للعائلة- أن الأب كتب على شاهدة القبر "هنا ترقد أمٌ شهيدة لم ترَ مولودها، ورضيع لا يتعدى عمره ثلاث ساعاتٍ، شاهد خلالها أبشع جرائم العصر".

رفعتُ رأسي عن شاشة الكومبيوتر، فلاحظتُ أن منتصف الليل قد حل.
قررتُ أن أنام بضعة ساعاتٍ قبل أن أعود إلى العاصمة، حيث منزلي وعائلتي، لأعاود نشاطي الطبي في العيادة والمستشفيات، لأكون مع الناس وبين الناس كما كنتُ دوماً، وكما أراد زوجي الشهيد أن نكون.
سأستمر في تدوين مذكراتي عن الوطن. أريد لطفلي القادم أن يعرف كيف عاش والده وكيف قضى شهيداً.
أريده أن يعرف إلى أي شعبٍ ينتمي، وأي هويةٍ يحمل.






Images rights are reserved to their owners













  













  

الناجـــــــــــي


لحظة!... لحظة!...
ماذا قلت؟...
قلت أنك أنقذتني من تحت الركام!؟
وهل تسمي إخراجي مقطوع الأوصال من رحم الركام نجاة!

والله يا عماه... لو أنني أعرف أن أتكلم لصرختُ بأعلى صوتي، أن... اتركني في حضن أمي، أشاركها أعجوبة الموت. أرافقها في رحلتها المجيدة نحو النجاة من شرور الأرض.

والله يا عماه... لو أنني أجيد الكلام، لطلبتُ أن تكفوني شر البقاء على قيد حياةٍ عرفتُ لحظة رأيتها أنها ساحرة شريرة، تركب مكنستها لتطارد ألعاب الصبيان... لتقتل خفر البنات ولتقتل ورود أحلامهنَّ.

عماه... أيها الأب المفجوع بجميع أفراد عائلته، يا مَن تنظر في وجهي من خلف دموعك، أقسم برأس أمي الشهيدة وبأبي الشهيد المفقود الأثر، أنهم جميعاً قد نجوا، وبقينا أنتَ وأنا على قيد القهر.

عماه... سامحني لن أبقى معك. فأوصالي المقطعة ستمنعني من طلب الثأر من قتلة الأنبياء والورود، ستمنعني من أن أرفع راية النصر يوم يرفعها قادة النصر.

عماه... ها هم يحاولون إنعاشي في المستشفى... فقل لهم لا فائدة، فالطفل ما زال متعلقاً بحبل سرّة أمه، ولا ألف سكينٍ يستطيع أن يقطعه.





 

Images rights are reserved to their owners