مجازات الوجود


في البدءِ

كنتُ نقطةً في فضاءِ الصمت

وروحي تبحث عن ظلِّها


بينَ احتمالاتِ الضوءِ والعدم

ترى!...



ما الجدوى من الوجود؟







أحيانًا

أشعرُ أنني فكرةٌ

تبحثُ عن جسدٍ

أو ظلٌّ يمشي

على حوافِّ الوقت

أو موجةٌ تسألُ البحرَ

عن معنى العودة

بعد كلِّ انكسار.






أيها الزمنُ

يا من تسرقُ أعمارنا

وتتركُ لنا الذكرى

كحبرٍ باهتٍ على جدرانِ القلب

علّمني كيف أحتفي بلحظتي

وكيف أجدُ في الفناءِ

معنى البقاء.






الحياةُ

مجازٌ طويل

نقطعهُ بين يقينٍ عابرٍ

وظنٍّ مقيم

نحملُ وجوهَنا كأقنعةٍ

ونبحثُ عن ملامحنا

في عيونِ الآخرين.







أغفو في حضنِ فكرةٍ

وأستيقظُ على حافةِ حلمٍ

لم يكتمل؟

أيُّ سرٍّ يسكنُ فينا!

نخافُ من الغيابِ

كأننا لم نأتِ يومًا من العدم؟





نعومي


جالت الدكتورة نعومي عبد الرحمن على أكبر المستشفيات وأصغرها في لبنان، وأجرت مقابلاتٍ لا حصر لها مع أطباء ومدراء في المجالات الصحية، لتقديم شهادة الدكتوراه في طب الأطفال/تخصص سرطان الأطفال، التي حازت عليها من أعرق جامعات إيطاليا.

لكن!...
الكل كان له الإجابة نفسها "د. نعومي سوف ندرس الملف ونبلغكِ بقرارنا".

أقلقهم سواد بشرتها؟ أم أخافتهم ردة فعل آباء الأطفال المرضى؟
فالكثير من المرضى ومرافقي الأطفال، أثناء فترة تدربها في مستشفيات لبنان، لطالما رفضوا أن تزورهم إلا مع أستاذها الطبيب، كانت ترى في نظراتهم ملامح الاستخفاف أو السخرية!

آلمها الموضوع كثيرًا، لكنها أقنعت نفسها انهم ليسوا سيئين، هم فقط أبناء وطن عنصري... ومَن مِن شعوب العالم ليس بعنصري؟
فهي لم تنسَ بعد، ما تعرضت له خلال سنتها الجامعية الأولى من تنمر داخل الحرم الجامعي. والذي واجهته بالصمت، إلى أن فاض الكيل معها يوم سمعت أحدهم صدفة يهمس لرفيقه "ما أجملها... أيمكن أن تكون خادمة هنا في الجامعة؟"
التفتت إليه وقالت: لا خيي أنا مش خادمة هون، مع كل الاحترام لعمال النظافة ولأصحاب البشرة السودا. أنا طالبة بكلية الطب، وشو بتمنى يكون في اختصاص يعالج الناس من العنصرية.

خجل الشاب واحمرَّت أذناه، فابتسمت وقالت: ما تخجل هيدا مش ذنبك... هيدا ذنب مجتمع كامل، وتربية غلط.
وهكذا أصبحت نعومي أشهر طالبة في كلية الطب، بل في الجامعة بأسرها.


كان ذنب نعومي أنها ولدت طفلة غير عادية بالنسبة لمجتمعٍ لا شيء فيه طبيعي، فهي نتيجة زواجٍ بين نهى اللبنانية وعبد الرحمن الآتي من السودان لدراسة الحقوق في لبنان.
عائلة نهى عارضت هذا الزواج بشدة، فالمجتمع لن يرحم زيجة مختلطة كهذه من "أجنبي أسود"!
كانت نهى تجيب غاضبةً "ليتكم برجاحة عقل عبد الرحمن، لتروا قبح العنصرية".


تلقت نعومي تربية تمزج الحنان بالحزم، والتفهم بالشدة. فعيشها في لبنان سيكون صعبًا وقاسيًا أحيانًا، كونها كانت "سوداء كأبيها" كما نعتتها عائلة أمها والمجتمع منذ ولادتها!
علمها أبواها الثقة بنفسها منذ نعومة أظفارها، ولقَّناها أفضل أساليب التعامل مع التنمر الذي لا بد أن يُمارس عليها من قِبل مجتمعٍ عنصري بامتياز. اللهم إلا ما رحم ربي.

ولأن نكبات الدهر، لا تخطئ عنوان أحد، فقد توفي الدكتور عبد الرحمن نتيجة أزمة قلبية حادة، وترك ابنته نعومي تلميذة الصف الثانوي، تصارع المجتمع مع والدتها المحامية، التي استطاعت أن تسترجع حقوق موكليها، إلا إنها عجزت عن استرجاع حق ابنتها، بأن تمنحها جنسيتها. كما عجزت قبلها على منح جنسيتها لزوجها الحائز على دكتوراه في القانون الدولي، لعل أبواب العمل تُفتح في وجهه، بدل تنقله من عملٍ صعبٍ إلى عمل أقسى، فقط كي لا ينقص أميرته الصغيرة أي شيء، وكي تكبر وهي تفتخر بوالدها حامل الدكتوراه في القانون الدولي، والذي مُنِع ظلمًا من العمل في لبنان بسبب جنسية، بعد أن أُبعِد من وطنه السودان، بسبب مواقفه السياسية الرافضة لكل أشكال الظلم.


استحقت نعومي منحةً جامعية لإكمال تخصصها في الخارج. بطبيعة الحال شعرت والدتها بالقلق عليها، لكنها بعد التفكير ومشاورة الكثير من معارفها ذوي المناصب الرفيعة في مجالات التعليم الجامعي والعمل الطبي، تقبلت الوضع ومنحت بركتها لنعومي الطبيبة الواعدة، وهي تقول "هناك يا حبيبتي لن يقلل من شأنكِ أحد، ولن تتعرضي للتنمر بسبب لون بشرتك".


عادت الدكتورة نعومي عبد الرحمن بشهادة دكتوراه في طب الأطفال/تخصص سرطان الأطفال، بدرجة ممتاز مع مرتبة الشرف، لتبدأ معركتها في لبنان وطنها حيث ولدت وتربت، لتفرض نفسها طبيبةً نالت شهادتها من واحدةٍ من أرقى جامعات إيطاليا.

لكن!...
مرَّت الشهور الطوال، ولا أي بادرة أمل بلقاء عملٍ مع أي إدارة مستشفى سبق أن زارتها. لماذا؟
لأن لبنان ككل الدول، بلدٌ تنخره العنصرية كما التعصب الطائفي. إلا ما رحم ربي.

أدخلها هذا الوضع في متاهة، وكادت أن تصاب باليأس.
إلى أن تلقت رسالة عبر البريد الالكتروني من أستاذها في إيطاليا، والذي واظبت على مراسلته، بناءًا على طلبه، فلطالما اعتبر تفوقها الدائم، انعكاسٌ لتفوقه هو وابداعه في توجيهها، والإشراف على دراستها وأبحاثها ورسائل تخصصها في معالجة سرطان الأطفال.

بالعودة إلى الرسالة وردت فيها جملة قصيرة وحازمة!
"لديَّ لكِ وظيفة تستحقكِ وتليقين بها".
أنتظرك غدًا الساعة الخامسة عصرًا بتوقيت بيروت على موقع "زوم".


صباح الغد أرسل البروفسور جيوفاني روسّي المقال التالي:
منظمة أطباء بلا حدود هي منظمة طبية إنسانية دولية مستقلة وغير حكومية، تأسست عام 1971 في باريس على يد مجموعة من الأطباء والصحفيين. تهدف المنظمة إلى تقديم المساعدات الطبية الطارئة للأشخاص المتضررين من النزاعات المسلحة، الأوبئة، الكوارث الطبيعية، والحرمان من الرعاية الصحية، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الانتماء السياسي.

تتألف طواقم أطباء بلا حدود من آلاف المهنيين الصحيين والموظفين اللوجستيين والإداريين الذين يعملون في أكثر من 70 دولة حول العالم. ترتكز أنشطة المنظمة على مبادئ الاستقلالية والحياد والأخلاقيات الطبية، وتسعى لتقديم رعاية طبية عالية الجودة للأشخاص المحرومين، مع احترام خصوصيتهم وحقوقهم. تعتمد بشكل أساسي على التبرعات الخاصة وتعمل بشكل مستقل عن الحكومات والمنظمات الدولية لضمان حيادها واستمرارية عملها.
بالإضافة إلى ذلك، تقوم المنظمة بحملات لخفض أسعار الأدوية وتحفز البحث والتطوير لعلاج أمراض مهملة وتقدم تقارير ميدانية لرفع وعي الرأي العام حول الأوضاع الإنسانية. حصلت منظمة أطباء بلا حدود على جائزة نوبل للسلام عام 1999 تقديرًا لجهودها الإنسانية الواسعة.

باختصار، هي حركة طبية إنسانية تسعى لتوفير الرعاية الطبية أينما دعت الحاجة وبأعلى مستوى ممكن من الجودة، مع التزامها بمبادئ الحياد والاستقلالية.

تمويل أنشطة منظمة أطباء بلا حدود يعتمد بشكل رئيسي على التبرعات الخاصة من الأفراد والمؤسسات. في عام 2024، جاء حوالي 98% من تمويل المنظمة من التبرعات الخاصة، بما في ذلك التبرعات الصغيرة التي يقدمها ملايين الأفراد حول العالم. أما التمويل الحكومي والمنظمات العامة، فيشكل أقل من 2% من إجمالي التمويل، وتفرض المنظمة قواعد صارمة على قبول أي تمويل حكومي أو خاص لضمان استقلاليتها.

تؤكد المنظمة على رفض أي تمويل من جهات تعمل في مجالات قد تتعارض مع مهمتها الإنسانية مثل شركات الأدوية الكبرى، شركات استخراج الموارد الطبيعية، شركات التبغ، ومصنعي الأسلحة.


قرأت نعومي المقال، وعملت طوال النهار على قراءة الكثير من الأبحاث والمقالات التي تتناول كل ما يخص منظمة أطباء بلا حدود كما طلب منها أستاذها.

بدأ الاجتماع على "زوم" بين البروفسور ود. نعومي، بمناقشة عمل منظمة بلا حدود.
عندما لمس البروفسور جيوفاني روسّي اعجاب نعومي بعمل المنظمة، ولاحظ المجهود الذي بذلته في قراءة وفهم كل ما يحيط بالمنظمة، ابتسم وقال: د. نعومي تحضري للمفاجأة... قررتُ أن أنضم لمكتب المنظمة هنا في روما...
تأملها وهي تبتسم بتهيِّب وكأنها تنتظر معجزة.
تابع: سوف تكونين معي... مساعدتي. ما رأيك؟
كادت أن يُغمى عليها، لكنها تمالكت نفسها وقالت: آسفة بروفسور لم أفهم... هل تريدني أن أكون...
ولأنها تبدو مذهولة وتائهة، قال البروفسور: أجل د. نعومي عبد الرحمن أريدك أن تكوني مساعدتي وأن تأتي إلى إيطاليا.


ماذا عن الإجراءات؟
وعد البروفسور بتكفل كل شيء لدخول د. نعومي عبد الرحمن إلى إيطاليا كطبيبة مهاجرة، ستعيش وتعمل في البلد!

سافرت نعومي مجددًا تاركة والدتها المحامية، لتناضل من أجل منح المرأة حقها في إعطاء جنسيتها لزوجها وأطفالها.

وهكذا حققت نعومي عبد الرحمن حلمها الكبير.
وفي إيطاليا بدأت قصتها كطبيبة تناضل في مناطق النزاعات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أطفال أبرياء يعيشون أهوال الحروب والفقر وأفتك أنواع الأمراض.


 


 

Images rights are reserved to their owners

 Image No5 rights are reserved to the blog

   

متى؟



سألته: متى نلتقي؟

أجاب: عندما تنتهي الحرب.

فقلتُ: ومتى تنتهي الحرب؟

أجاب: عندما نلتقي.



ها هو قد ذهب

في رحلته الأبدية

ولم نلتقِ!

إذن...

لن تنتهي الحرب!



 Image rights are reserved to the owner 

 

المايسترو


وهو يُحتضر، أخبر العجوز حفيده أنه ترك له إرثًا كبيرًا في وطنه الأصلي.
"اذهب بي إلى هناك... أريدك أن تدفن رفاتي إلى جانب والديَّ".
لفظ العجوز أنفاسه وهو يشير إلى الدُرج المجاور لسريره.

لبرهة لم يعرف الشاب ماذا يفعل!
بالكاد استوعب أن جده الحبيب قد فارق الحياة.
فتح الدُرج، فوجد ملفًّا مُصفرًّا قديمًا، فتحه فوجد سرّ جده!
على ورقةٍ رسميةٍ دمغها الجدُّ بختمه وتوقيعه وصية مختصرة "بعد موتي، يرث حفيدي المايسترو العالمي "حبيب سلمان' المزرعة في أعلى الجبل المُطِل على قريتي في لبنان".

وصل جثمان العجوز إلى قريته عصر يومٍ ماطرٍ شديد البرودة، يرافقه حفيده حبيب وعدد من أبناء عمومته.
شاركهم في مراسم الدفن الضابط رئيس المخفر وعناصره، أما سكانُ القرية فلم يظهر لهم أي أثر!

بعد انتهاء مراسم الدفن، زار الضابط منزل المايسترو وأخبره أن أهل القرية واجمون غلاظ، يتقاتلون لأوهى الأسباب إلى أن تسيل الدماء!
كما حذَّره من التعامل معهم، فهم حقًا أجلاف!
لكن!... سكان القرية وصية جده، ففي رسالة وجدها داخل ملف الوصية ألح عليه الجد أن يعتني بأهل القرية ويرعى شؤونهم؛ ففي أجواء القرية لعنة أزلية تنشر الهمَّ والغمَّ في الهواء!

بعد طول بحث ودراسة للوضع النفسي والاجتماعي لسكان القرية، قرر المايسترو حبيب أن يستخدم "الذكاء الاصطناعي" لمساعدته في علاج هذه الحالة الغريبة.

استعان بخبير تكنولوجي، صمَّم له بتقنية الهولوغرام عازفًا مطابقًا له في الشكل، وأطلقه في سماء القرية يعزف ألحانًا متنوعة.
بدايةً... ساد الرعب، واختبأ السكان في أقبية المنازل!

إلى أن...
بعد أسبوعٍ من المحاولات، خرج طفلٌ في غفلةٍ من الأعين وضحك!... تبعه أطفالٌ آخرون. فخرج إليهم المايسترو... ورقص!
تجمهر سكان القرية لمشاهدة ما يحصل!
"أي شيطانٍ يسكنهم!" كهذا صاحت عجوز.
حاول رجلٌ عجوز أن ينهر الأطفال بعصاه الغليظة، فزاد هرجهم وتجمهروا حوله وهم يتقافزون ويضحكون.
أمسك به المايسترو وقال: دعهم، إنَّ الفرح خُلِق للأطفال.
بعض الأمهات الشابات لفتهنَّ فرح أطفالهن فشاركْنهم الفرح... ابتسمنَّ بخجل بدايةً، ثم ضحكنَّ وأطفالهنَّ يشجعونهنَّ على الرقص معهم.

بعد عدة أشهر، بدأت تشرق العجائب في أنحاء القرية.
بدأ البعض يتبادل التحيات والابتسامات بخجل. صبيةٌ زينت رأسها بوردة... شابٌّ تقدم من المايسترو ورقص معه.
بدأت بعض النسوة يشاركنَّ المايسترو الرقص... حتى أن عجوزًا صفقَت عندما تقدم شاب وراقص جارته الشابة.

مضى عام...
اتسعت دائرة المعجزات والعجائب، وكأن أحدهم رمى حجرًا في بركة راكدة!

في رسالة أرسلها رئيس المخفر إلى مديرية قوى الأمن أعلن "لم يعد سكان القرية يتقاتلون!"

وتناقلت وسائل الإعلام خبر المايسترو العالمي حبيب سلمان، الذي أخذ على عاتقه نشر الفرح في ربوع قرية ورثها عن جده المهاجر، والتي لطالما ذاع صيت سكانها بأنهم غلاظ أجلاف.

أول سؤال طُرِح على المايسترو حبيب سلمان في برنامجٍ تلفزيوني استضافه للإضاءة على حادثة القرية كان "ما سرِّ ما قمتَ به في قرية جدك!؟ وهل حقيقة استطعتَ أن تُبطل مفعول تعويذة جعلتهم بهذه الجلافة وغلاظة الطباع!"

ابتسم وأجاب: لقد كان سكان القرية تحت تأثير خرافة توارثوها منذ عقود، تزعم أن منجّمة غجرية لعنت سكان القرية منذ 100 عامٍ بسبب طردها مِن قِبل رجلٍ متنفذٍ كان يسكن القرية يومها!
لكن الحقيقة أن ذاك المتنفذ، رفض دخول الغجر إلى القرية يومها بسبب كرهه الشديد للفرح والفن.
كما حرَّم على سكان القرية جميع أنواع الفن والأدب، سواء ممارسته أو تذوقه كهواية وشغف.
وهكذا... فقد السكان أي معنى للحياة، وتحولوا إلى مجموعة من الهمج، يتوارثون الجلافة جيلًا بعد جيل.
كل ما فعلته، أنني حركتُ مكامن الأحاسيس فيهم، وأيقظتُ المشاعر البشرية في دواخلهم، فأصبحوا ما أراده لهم جدي منذ أن غادر القرية، وقد أقسم على شرائها وتحرير سكانها من جبروت عائلة ذاك المتنفذ، وتحريرهم من تعويذة/لعنة لا وجود لها إلا في عقولهم.



 

Image No1 rights are reserved to Johanne Cullen 

Image No2 rights are reserved to jody  hewgill

Images No3-4 rights are reserved to their owners


السنفورة


خفقةٌ كادت توقف قلبه، وقد طالعه وجهٌ صبوحٌ، أول دخوله إلى عيادة طبيب القلب.
أيمكن أن تكون هي؟... "يا رب... فلتكن هي".
أعطى اسمه همسًا للسكرتيرة، وجلس في مواجهة صاحبة أرقَّ وجهٍ عرفه في حياته. إنها هي... لا يمكن أن تكون إلا هي.
تأمل وجهها الساهم في عالمٍ ما، ما زالت البراءة ترسم محيّاها، رغم اقترابها من عقدها السادس... السادس!
ما زال يحنُّ ويئنُّ شوقًا إلى ماضٍ بعيدٍ/قريب، جمعهما على مقاعد الدراسة.
كانا في السابعة عشرة من عمرهما.
يذكرها وهي تجلس على المقعد أمامه في الصف، وكيف كان أحيانًا يهيم بشعرها الحريري، ويسرح بين خصلاته.

نبيل... صديقه كان الوحيد الذي يعرف سره، وكان يشجعه قائلًا: متى ستصارحها لترتاح؟... نحن على أبواب الامتحانات النهائية!
فيجيب: أخاف أن أرعبها بمشاعري، وأخدش براءتها. تعرف كم هي خجولة السنفورة.

السنفورة... هكذا كان يلقبها الجميع، بسبب صغر حجمها.
اقترح عليه صديقه نبيل أن يطرح سؤالًا على جميع رفاق الصف، قبل نهاية العام... "أي جامعة ستختار؟" وهكذا سيعرف أين يجدها.

لكن!...
لعنة الله على الحرب! لطالما حطمت آمال الشباب، فالحرب الأهلية في لبنان مستمرة منذ أن ولدوا، وها هم على أبواب الجامعات، ولم تضع أوزارها بعد. فبسبب معركةٍ طاحنة، توقفت المدارس عن التعليم! وحُوِّل تلامذة السنة النهائية في جميع المدارس إلى إجراء امتحاناتٍ رسمية... لم تحصل، بل أُلغيَت في اللحظة الأخيرة، وتُرِك الشباب ليفتح أبواب الجامعات بمجهوده الشخصي.
وهكذا!... فقدها!
قصد الحي الذي تسكنه ليسأل عنها، فقيل له إن العائلة انتقلت إلى جهة مجهولة!

ها هي بعد نيفٍ وأربعين من قهر الفراق والحنين، تعود لتظهر أمامه. ما زالت ضئيلةَ الحجم، لطيفة الملامح، لم يزدها الكِبَرُ إلا وقارًا.
لكن!... ماذا تفعل في هذه العيادة؟... لا يريد أن يفكر أنها مريضة!
بعد أن فرغ صالون العيادة إلا منهما، تجرأ وانتقل للجلوس إلى جانبها. ألقى عليها التحية... فذُهلَت أنه يعرف اسمها!
عفوًا سيدي... أتعرفني؟
كانت تزداد اندهاشًا وهي تتابع كلامه، بينما يذكرها بأيام المدرسة.
ضحكت ملء فمها الصغير وأجابت:
ياااااااااه... كم تمنيتُ أن ألقى أحدكم يومًا ما... للأسف فقدتُ أثر الجميع تلك السنة.
ابتسم بكل شوقٍ وفرحٍ للقياها وأجاب:
ما زلتُ نبيلًا وأنا من أقرب وأعز الأصدقاء.
لحظة، وقالا معًا: ماذا تفعل/ين هنا؟
ثم ضحكا وكأنهما عادا مراهقَين في المدرسة، يتبادلان النكات.

خرجا من العيادة معًا، بضغط دمٍ مرتفع ونسبة لا بأس بها من الكوليسترول!
وهما ينتظران حضور نادل المقهى بقهوتهما السادة، ضحكا من هزلية الموقف؛ فأن يلتقيا اليوم تحديدًا وفي عيادة طبيب القلب بعد أن بلغا من العمر عتيًا، أمرٌ أثار سخريتهما معًا.
سألها: مَن أصبحتِ؟
أجابت: طبيبة أمراض نسائية... أرملة، وأم لشابين توأم، أحدهما طبيب جراح، والآخر مهندس.
نظرت إليه وهو يبتسم بودّ وسألت: وأنتَ مَن أصبحت يا رفيقي؟
أجاب: مهندسٌ أعزب/ يتيمٌ يبحث عن دفء العائلة... أضعتكِ يومًا ولا أنوي أن أكرر غبائي.




 

Images rights are reserved to their owners



 

 

 

 

 

 

 

همس الحنين

 
عزيزي آدم...
صاحب الطيف الأجمل...
الغائب/ الحاضر... الذي هو في غيابه، أكثر جمالاً في روحي من الجميع.

سبق أن زعمتُ- في رسالتي الأخيرة لك- أنها رسالتي الأخيرة.
لكن!... هو الحنين يا "رفيق الولدنة"، فالروح مسكونة بالأشواق لزمنٍ كنتُ فيه طفلة يافعة، لا هم لي سوى أن أراكَ تنتظرني في الشرفة المقابلة. لتأخذني إلى حلمٍ لا حرب فيه... ولا أصوات مدافع.

لعلك مثلي، ولعلك كمعظم معاصري الحرب الأهلية، قد اكتشفت أنها كانت لعبة أطفال بالنسبة لما نعيشه اليوم، من جميع أنواع البشاعات والموبقات، أولها الصواريخ الذكية، وليس آخرها المسيِّرات الانتحارية والتجسسية، التي تؤرق نوم الآمنين وتغتال براءة الأطفال.

ترى!... ما رأيكَ بكل ما يجري؟ هل تعتبر فلسطين قضيتكَ المركزية، أم أنك...؟
يا إلهي مرعب أن أفكر بذلك... أيعقل أنني أحفظ ذكرى رفيقٍ وأتمنى لقاءه، في حين نحن نقيضان في العقيدة الدينية والإنسانية والاجتماعية؟!


أسبوعين وأنا أهمل متابعة هذه الرسالة، فالمستجدات حدثٌ جلل!
كان العالم على شفا حربٍ عالمية نووية!
لكن الجميل في الموضوع أن حصون ما يسمى "إسرائيل"- الكائن المسخ- تُدك للمرة الأولى منذ تاريخ إنشائها المشؤوم.
لا أريد حتى أن أفكر، بأنك يمكن أن تكون من تلك الفئة المناهضة لفكرة المقاومة وقتال العدو، النافخة في بوق السلام والتطبيع المخزي مع عدو الله والإنسانية!


لكن!...
ما لنا وللحديث عن الحرب، يكفينا أننا نعيشها منذ أن ولدنا.
فما أردتُ أن أبوح لك به في هذه الرسالة، هو حجم الألم الذي أعيشه ككل أبناء جيلي، بعد أن بلغنا من العمر عتيًا، وتعتقنا في خوابي الوجع، في وطنٍ ما زال يتآمر علينا منذ أن لفظنا من أوساطه الإبداعية وميادينه العملية، لصالح أبناء الوساطات والأزلام وعبيد المال... إضافة إلى واحدة من عجائب هذا الزمن، ما يسمى المؤثرين والفاشينيستا (ز)!

هل غزا الشيب رأسك يا رفيقي؟
هل ضعف نظرك؟... لا يهم، المهم ألا نفقد البصيرة. وهل غير البصيرة من أوصلنا إلى كل هذا الوجع؟
أنا أنتمي لتلك الفئة التي تجسد مقولة إميل سيوران "الوعي لعنة مُزمنة، كارثة مَهولة، إنهُ منفانا الحقيقي، فالجهل وطن، والوعي منفى".

فهل أنتَ من هذا الجيل الذي عاصر الأصالة قبل أن تدخل تكنولوجيا الأجهزة الذكية، لتحول حياتنا إلى "تواصل افتراضي" تنتفي فيه كل قيِّم الرقي والاحترام والجمال والكمال!؟
يا لروعة كوننا جيلٌ لطخ أصابعه بحبر الأقلام الجافة، وقبَّل الورق أنامله. جيلٌ جالس الكتاب، وأمضى ساعاتٍ بين أقسام معرض الكتاب. نحن أبناء الأصالة، تعلمنا احترام الكبير ومحبة الصغير.
كان صوت فيروز نشيد صباحاتنا، أما قلوبنا فنبضت بالحب مع أم كلثوم، وكم غنينا مع عبد الحليم "وحياة قلبي وأفراحه" ونحن نجتاز المراحل التعليمية.

آهٍ... كم كنا ثائرين أثناء الدراسة، أورثتنا ثورتنا فكرًا ناضجًا منذ حداثة أعمارنا، فآمنا بمقاومة المحتل، وبالثورة على وطن يعيش أبشع أنواع الخلافات والاختلافات. للأسف لم تنجح ثورتنا، فها أن الوطن قد تشرذم إلى محميات، والخلافات أصبحت عداوات، والاختلافات تحولت لتصبح طائفية مقيتة.

آدم يا "رفيق الولدنة" هل تحمل منفاك في داخلك مثلي!؟
فالوعي المبكر نما في روحي، وتلقى اشتعالاته من حرائق دمي التي خضتها وأنا أسير على طريق الجلجلة، حاملة صليب معاناتي، أنوء تحت ثقل الحِمل.
شكلتني المعاناة، لا بل أعادت تشكيلي آلاف المرات، لتجعل مني امرأة معتقة الآلام، باذخة الحزن، تتناسل ثوراتي من مخاض أحلامي وآمالي وآلامي، لتجعل مني امرأة من أرقٍ وقلق.
أراقص الحياة وأشتبك معها، أُرديها أرضًا كلما صفعتني، وإذا ما رمت أمامي أحجارها، تعثرتُ... لكنني سرعان ما أقف لأرشقها بالحجر.
لا أخفيك سرًا يا رفيقي، مرّ العمر ولا عناوين ثابتة على خريطة أيامي، ولا بوصلتي فيها اتجاهات!
لذا فقد أتعبتني محاولات ترويضها، والأحمال على كاهلي تتراكم جبالٌ فوقها جبال، وأنا روحٌ منهكة تحتها، أبحث عن زاوية أمانٍ وسلام لأعيش ما تبقى من أوجاع العمر.


عزيزي آدم...
صاحب الطيف الأجمل...
لعلنا قبل اسدال الستارة عن مسرحية الحياة، نلتقي على قارعة صدفةٍ، وقد هيأت لنا متكأينِ من ورد... وقهوة لقاءٍ تنتظر مراهِقين بلغا خمسينهما، أو ربما ستينهما... أو ربما...
فهل نلتقي يا رفيقي، أم............؟

 

Images rights are reserved to their owners

روحٌ... ومواجع


تقاطعت الأقدار متعاكسة الاتجاهات. فلم يبقَ سوى الفراق، آخر الأقدار.
فما فرقنا صحـراءٌ مـن الغربة، وزمـنٌ قاهرٌ... وسـوءُ توقيـت.

لكن!... لستُ وحيدة، كما يُخال لهم!
مزدحمة بك روحي، منذ صدفةٍ أرْدَتنا، على أخطر حافة في الحياة... العشق.
هناك... حيث أعدتَ تكويني، امرأة شاهقة الحزن، روحي مطرزة بوشم غائبٍ تحوَّل إلى جرح.
يمر بي العابرون، يرون غيمةً تمطر أحزانًا، تمطر هذيانًا... وحنين.
فيشرِعون مظلاتهم، ويكملون الطريق
.





Image rights are reserved to the owner












 

بؤسستان


في بلاد بؤسستان

نشرب الصباح

في فناجين المرارة

نكنس حطام أحلامنا

ونشعل بها مواقد الصبر.



ندفن العصافير المنتحرة

من علياء أبراج القهر

نوضب تغريداتها

في صندوق باندورا

نسجنها هناك في القعر

حيث يطيب النواح

مع أملٍ سجين.



في بلاد بؤسستان

نحفر مقابر جماعية

لبراءة الأطفال وفرح الفراشات

نقيم المآتم على موائد الفجيعة

نزغرد نواح اليمام

ونذرف الدموع أنهار دماء.



في بلاد بؤسستان

مشانق منصوبة

على قارعة كل حلم

يتدلى منها الحق

مُدْلَع اللسان

وكأنه جثة

تسخر من قاتليها.





Image No 1  rights are reserved to Christian edler

Images rights are reserved to their owners




لوز وسكّر


حرمهما الله نعمة الإنجاب، فامتهنا إضحاك الأطفال.
بعد سنواتٍ من العلاجات ومحاولات الحقن المجهري، أخبرهما الطبيب أن الإنجاب بالنسبة لهما مستحيل، إلا في حال حصلت معجزة.

كان نزار يملك متجرًا لبيع ألبسة الأطفال. بعد ليلةٍ من النقاشات بينه وبين زوجته الحبيبة، اقترحت عليه منى أن يفكر بتأسيس فرقة لتسلية الأطفال، بدل أن يناقشها بفكرة الانفصال.

وهكذا كان...
أسسا فرقة " لوز وسكّر"، زوجان مهرجان يقيمان عروضًا مسرحية في المدارس والمسارح.
ذاع صيتهما وأصبحا حديث الأطفال والعائلات. وقد عرضت إحدى محطات التلفزة المحلية عليهما، برنامجًا للأطفال يُعرض يوميًا... فوافقا.

مضت السنوات وهما يعملان بجدٍ، فذاع صيتهما، واتسعت شهرتهما.
لكن الزمن... غادرٌ ويهوى تنغيص هناء البشر!
اكتشف الأطباء ورمًا سرطانيًا في جسد منى!
 لم يخفها المرض أو يثنها عن تقديم العروض للأطفال، فكانت تقول لزوجها بعد كل عرض ومهما اشتد وجعها "ضحكات الأطفال هي أجمل ما في الحياة، فلا تتوقف عن إسعادهم أبدًا، مهما حصل لي".

ازدادت صحتها سوءًا مع مرور الوقت، ونزار يشعر بالعجز وهو يراها تضعف يومًا بعد يوم. إلى أن أعاقها المرض عن الخروج من المنزل.
كان لوز بعد انتهاء العمل يخلع قناع المهرج، ويعود إلى منزله الصغير، ليعتني بحبيبته سكّر محبوبة الأطفال، وينقل لها رسائلهم وباقات ورودهم التي يرسلونها لها، وهو يحاول أن يخفف عنها الألم. كان يروي لها قصصًا عن الأطفال الذين أضحكهم اليوم، وعن السعادة التي رآها في عيونهم.
لكن داخله كان محطمًا، فمنى لن تتحسن... هكذا أخبره الطبيب وختم بكلامه "للأسف... عليك توقع الأسوأ".

شهورٌ قليلة قضياها معًا بالألم والمعاناة والدموع...
ذات فجرٍ طلبت منه منى بصوتٍ ضعيف شربة ماء.
لم تكملها... أسلمت الروح بين يديه.
تحولت أيامه إلى ظلامٍ، فاعتزل الأضواء وأغلق باب منزله على نفسه.

بعد أكثر من شهر، على وفاة منى، كان أحدهم يضغط على جرس الباب دون انقطاع، ويدق بيديه الخشب وهو يصرخ "نزار... لن أرحل، وسأقرع الباب إلى أن تفتح لي".
أمام إصرار الزائر، لم يكن أمامه إلا أن يفتح الباب.
كان صديقه... مخرج البرنامج التلفزيوني.

بعد العديد من المحاولات الفاشلة، قرر صديقه أن يخرجه من عزلته عنوة، ومهما كلف الأمر.

في وقت عرض برنامج الأطفال، ظهر المخرج وطلب من الأطفال أن ينصتوا جيدًا. أخبرهم قصة وفاة محبوبتهم سكّر، وحزن لوز عليها، ورفضه الخروج من المنزل.
واقترح عليهم أن يتجمعوا بأكثر عدد ممكن أمام مبنى التلفزيون، ليرافقوه إلى منزل لوز، فربما يستطيع الأطفال إخراجه من أحزانه.
وهكذا كان... في الموعد المحدد حضر عشرات الأطفال مع أهاليهم للمشاركة في زيارة لوز.

فتح الباب بعد إلحاح صديقه المخرج، فدخل الأطفال صاخبين وهم يتعلقون بقدميه ويديه، ويصرخون "لوز... لوز..."
اقتربت منه طفلة جميلة وعلى وجهها ابتسامة ساحرة وقالت له "لوز... أنا أيضًا مثلك حزينة لأن والدي قد مات... لكن أمي قالت انه يراني من السماء، وأنه سيبكي إذا رآني حزينة... لا تحزن كي لا تبكِ سكّر وهي في السماء"
عانقته بحنان بالغ... فعانقها بحرارة.
في تلك اللحظة، أدرك نزار أن منى كانت على حق. ضحكات الأطفال هي أجمل ما في الحياة.

فقرّر أن يعود إلى المسرح، لا لأنه نسى ألمه، بل لأنه أراد أن يحوّل ذلك الألم إلى أملٍ جديد. أراد أن يكون مصدر سعادة للآخرين، حتى لو كان قلبه ينزف. تمامًا كما أوصته سكّر.

عاد لوز إلى ارتداء قناع المهرج.
وخلال كل عرض، لم يتوقف عن إخبار الأطفال قصة سكّر الجميلة التي أحبتهم وهي تراهم من السماء.
ويختم العرض برسالة حبٍ لها منه ومن أحبائها الأطفال.


Images rights are reserved to their owners